سورة البقرة - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (البقرة)


        


قلت: البر، بالكسر: يجمع وجوه الخير وأنواع الطاعات، والنسيانُ: الترك.
يقول الحقّ جلّ جلاله في توبيخ أخبار اليهود: كانوا إذا استرشدهم أحد من العرب دلّوه على الإسلام، وقالوا له: دين محمد حق، وهم يمتنعون منه، وقيل: كانوا يأمرون الناس بالصدقة وهم يبخلون، فقال لهم: كيف {تأمرون الناس بالبر} والإحسان، وتتركون {أَنفُسَكُمْ} في الكفر والعصيان، وأنتم تدرسون التوراة الصحيح، وتعلمون أن ذلك من أقبح القبيح؟، أفلا عقل لكم يزجركم عن هذه الخصلة الذميمة؟؛ فإن من شأن العقل التمييز بين القبيح والحسن والنافع والضار، فكل من تقدم لما فيه ضرره فلا عقل له.
الإشارة: كل مَن أشار إلى مقام لم يبلغْ قدمه إليه، فهذا التوبيخ متوجِّهُ إليه، وكل مَن ذكر غيره بعيب لم يتخلص منه، قيل له: أتأمر الناس بالبر وتنسى نفسك خالية منه، فلا يسلم من توبيخ هذه الآية من أهل التكذير إلا الفرد النادر من أهل الصفاء والوفاء.
وقال البيضاوي: (المراد بها حثّ الواعظ على تزيكة النفس، والإقبال عليها بالتكميل لتُقَوم فيُقَيِّم، لا منع الفاسق عن الوعظ، فإن الإخلال بأحد الأمرين المأمور بهما لا يوجب الإخلال بالآخر). فانظره. وتأمل قول القائل:
يا أيهَا الرجلُ المعلِّمُ غيرَه *** هلاَّ لنفسِك كانَ ذا التعليمُ
تَصِف الدواءَ لِذي السقامِ وذي الضنَا *** ومِن الضَّنَا وجَواهُ أنتَ سقيمُ
وأراكَ تلقحُ بالرشادِ عقُولَنا *** نُصْحاً وأنت مِن الرشادِ عديمُ
أبدأ بنفسِك فانْهَهَا عَن غَيَّها *** فإذا انتهتْ عنه فأنتَ حكيمُ
فَهُناك يُقْبَلُ إن وعظتَ ويُقتدَى *** بالقول منكَ وينفعُ التعليمُ
لا تَنْهَ عن خُلقٍ وتأتيَ مثلَه *** عارٌ علَيكَ إذا فعلتَ عظيمُ
لكن مَنْ حصل له بعض الصفاء ذكر غيره ونفسه معهم، وكان بعض أشياخنا يقول حين يذكر الفقراء: نحن إنما ننبح على نفوسنا.


قلت: الصبر: هو حبس القلب على حكم الرب، فيحتمل أن يراد به ظاهره، أو يراد به هنا الصوم، لأن فيه الصبر عن الشهوات. والخشوع في الجوارع: سكونها وذُلها، والخضوع في القلب: انقياده لحكم الرب.
يقول الحقّ جلّ جلاله: يا مَن ابتلي بالرئاسة والجاه، استكبر عن الانقياد لأحكام الله؛ التي جاءت بها الرسل من عند الله، استعن على نفسك {بالصبر} على قطع المألوفات، وترك الحظوظ والشهوات، وأصل فروعها حب الرئاسة والجاه، فمن صبر على تركهما فاز برضوان الله. وفي الحديث: «وفي الصبر على ما تكرَهُ خيرٌ كثير».
قال الشاعر:
والصَّبْرُ كالصْبرِ مُرٌ في مذَاقَتِه *** لَكِنْ عَواقِبُه أحلَى مِن العسلِ
أو: {وَاسْتَعِينُوا} بالصوم {وَالصَّلاةِ}، فإن في الصوم كَسْرَ الشَّهْوَةِ وتصفية النفس، فإذا صفت النفس من الرذائل تحلت بأنواع الفضائل، كالتواضع والإنصاف، والخشوع وسائر سني الأوصاف، وفي الصلاة أنواع من العبادات النفسية والبدنية، كالطهارة، وستر العورة، وصرف المال فيهما، والتوجه إلى الكعبة، والعكوف للعبادة، وإظهار الخشوع بالجوارح، وإخلاص النبيّة بالقلب، ومجاهدة الشيطان، ومناجاة الرحمن وقراءة القرآن، وكف النفس عن الأطْيَبَيْنِ، وفي الصلاة قضاء المآرب وجبر المصائب، ولذلك كان- عليه الصلاة والسلام- إذا حزّ به أمر فزع إلى الصلاة، {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ} أي: شاقة على النفس؛ لتكريرها في كل يوم، ومجيئها وقت حلاوة النوم، {إلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ} الذين سكنت حلاوتها في قلوبهم، وتناجوا فيها مع ربهم، حتى صارت فيها قُرَّة عينهم.
الذين يتيقنون {إَنَّهُمْ مُّلاقُوا رَبِّهِمْ} فيتنعمون بالنظر إلى وجه الكريم، ويتيقنون أيضاً أنهم راجعون إلى ربهم بالبعث والحشر للثواب والعقاب، وإنما عبَّر الحق تعالى هنا بالظن في موضع اليقين إبقاء على المذنبين، وتوفراً على العاصين، الذين ليس لهم صفاء اليقين؛ إذ لو ذكر اليقين صرفاً لخرجوا من الجملة، فسبحانه من رب حليم، وجواد كريم. اللهم امنن علينا بصفاء المعرفة واليقين، حتى لا يختلج قلوبنا وَهْمٌ ولا ريب، يا رب العالمين.
الإشارة: يا من رام الدخول إلى حضرة الله، تذلل وتواضع لأولياء الله، وتجرّع الصبر في ذلك كي يدخلوك حضرة الله، كما قال القائل:
تَذللْ لِمنْ تهْوى فَلَيْسَ الهوَى سَهْلُ *** إذا رَضِي المَحْبُوبُ صَحَّ لكَ الوَصْلُ
فإن منعك من ذلك حب الرئاسة والجاه، فاستعن على ذلك بالصبر والصلاة، فإن الصبر عنوان الظفر، والصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر. فأدمن قرع الباب حتى تدخل مع الأحباب، فالإدمان على عبادة الصلاة أمره كبير، إلا مَن خلص إلى مناجاة العلي الكبير، وتحقق بملاقاة الشهود والعيان، ورجع إلى مولاه في كل أوان، فإن الصلاة حينئذٍ تكون له من قرّة العين. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
ولما أمرهم بالأصول والفروع، ذكَّرهم بالنعم، وخوفهم بالوعيد على عدم شكرها.


قلت: {العدل} بالفتح: الفداء، وبالكسر: الحمل، وجملة {لا تجزي}: صفة ليوم، والعائد محذوف، أي: لا تجزي فيه.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {يَا بَنِي إسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ} على آبائكم بالهداية وبعث الرسل، {وَأنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ}: أهل زمانكم، فاذكروا هذه النعم واشكروني عليها؛ بأن تتبعوا هذا النبيّ الجليل، الذي تجدونه مكتوباً عندكم في التوراة والإنجيل.
وخافوا {يَوْماً} لا تَقْضي فيه {نَفْسٌ عَن نَّفْسِ شَيْئًا} بحيث لا تجلِب لها نفعاً، ولا تدفع عنها ضرراً، ولا تقبل {مِنْهَا شَفَاعَةٌ} إن وقعت الشفاعة فيها، ولا يؤخذ منها فداء، إن أرادت الفداء عنها، ولا تنتصر في دفع العذاب، إن أرادت الانتصار بعشيرتها. فانتفى عنها وجوه الامتناع من العذاب بأي وجه أمكن؛ فإن الإنسان إذا أُخذ للنكال احتال على نفسه إما بالشفاعة، أو بالفداء إن لم تقبل الشفاعة فيه، أو بالانتصار بأقاربه، والآيةُ في الكفار، فلا حجةَ لمن ينفِي الشفاعة في عُصَاة المؤمنين، والله تعالى أعلم.
الإشارة: قد يتوجَّهُ العتاب إلى أهل الرئاسة والجاه، من العلماء والصالحين، وكل من خُصَّ بشرف أو خصوصية، فيقول لهم الحق تعالى: {اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} بالعلم أو السيادة أو الصلاح، وبأن فضلتكم على أهل زمانكم، وخصصتكم من أبناء جنسكم؛ فقد رُوِيَ: «أنَّ العبد يُحاسب على جاهه كما يُحاسب على ماله». فمن صرفه في طاعة الله، وتواضع لعباد الله، وسعى في حوائجهم، وأبلغ الجهد في قضاء مآربهم، كان ذلك شكراً لنعمة الجاه؛ فقد رُوِيَ في الحديث: «مَنْ سَعَى في حَاجَةِ أخيهِ المسْلِم، قُضِيتْ أو لَم تُقْضَ، غُفِر لَه ما تقدَم مِنْ ذنبه، وكُتب له براءتان: براءة من النار وبراءة من النفاق».
ولا يأخذ على ذلك أجراً ولا جُعلاً؛ فإنَّ ذلك سحت وربا، ومن تكبّر به وطغى، أو أخذ على ذلك أجراً، قيل له يوم القيامة: قد استوفيت أجرك فلا حظ لك عندنا، فلا تنفعه شفاعة، ولا يقبل منه فداء، ولا يقدر أن ينتصر من موارد الهوان والردى، ففي بعض الأخبار: يقول الله تعالى للفقراء الذين يعظمون في الدنيا لأجل فقرهم: ألم أرخص لكم الأسعار؟ ألم أوسع لكم المجالس؟ ألم أُعطِّف عليكم عبادي؟ فقد أخذتم أجركم في الدنيا. أو كما قالك والله تعالى أعلم.

4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11